
تاريخنا بين الانبهار والاحتقار
عندما كنا في مقاعد الدراسة تعلمنا التاريخ ودرسناه كمادة من المواد التي حاول أساتذتنا أن نتفوق فيها اقتداء بالأمم المتقدمة التي تعتني بذاكرتها وتقدسها ،ومنذ سن مبكرة عشقت التاريخ لا سيما الحقبة الإسلامية منه (عصر النبوة ـ عصر الخلفاء ـ الفتوحات الإسلامية ) وكنت منبهرا بنماذج لأنها تشكل النبراس الذي ينير الطريق ،وتمثل القدوة التي توصل البشرية إلى شاطئ الأمان وعندما تقدمت في السن بدأ الانبهار يضمحل لسببين :
أولا ـ إن أساتذتنا غرسوا في أذهاننا بطولات الرجال وقدموهم لنا وكأنهم ملائكة يتحركون على الأرض ،ولما توسعنا في البحث وأدركنا بعض أخطاء هؤلاء العظماء بدأت النموذجية تعتز
ثانيا ـ إن تاريخنا للأسف يكتبه المنتصرون (إلا ما رحم ربي)والمنتصر لا يترك للمنهزم حسنة إلا محاها ،ولا سيئة إلا عظمها وأضاف لها مثالب وعيوب تحط من قدر المنهزم ، ويكفي دليلا على صحة ما أقول ما فعله العباسيون مع الأمويين ولو أن المربين والقائمين على المناهج الدراسية امتازوا بالاعتدال وعدم الإفراط وكانوا منصفين فيما يقدمونه من برامج لما ساهموا في جيل مهتز ينظر نظرة الازدراء لتاريخ أمته ،ولا أخفي عليكم أنني أتلقى عشرات الأسئلة يوميا عما دار بين عثمان والثائرين عليه ،وما دار بين علي والخارجين عليه ،ومادار بين الشهيد الحسين وقاتليه ،وأحيانا تأتيني هذه الأسئلة من ابن لي ينقب في مكتبتي كثيرا ،ويضع الخطوط الحمراء حول ما لا يقتنع به ،أو يراه متناقضا من وجهة نظره ،فطورا أجيبه وطورا أهرب منه لأنني شخصيا أحيانا أكون غير مقتنع بما كتبه المؤرخون القدامى والمعاصرون على حد سواء .
وذات مرة حاصرني ابني وقد أعد عدته الفكرية وصدمني بتساؤل عجيب …
أبي أنا مسلم سني مثلك وعقيدتي مثل عقيدتك تماما ،ولقد تعلمت منك أن المسلم يجب عليه أن يكف ويمسك لسانه عما شجر بين الصحابة أو يؤول ما حدث بينهم تأويلا يليق بمقامهم ولكن هذا تاريخ وأسلافنا الأوائل كتبوه بخيره وشره ،فالطبري ،وابن سعد ، وابن خلدون ،وابن الأثير كل منهم كتب ما وصل إليه وفق قناعاته ووفق ما يعتقد صحته ،وهب يا أبي أننا كففنا عن كتابة هذه الطابوهات ومنعنا الناس من مناقشاتها ،فسوف يأتي المغرضون كجرجي زيدان ،وهشام جعيط ،وطه حسين ،ويكتبون هذا التاريخ برؤاهم المزيفة ،وثقافتهم العميلة للغرب .
فقلت يا بني لا فرق عندي بين العقيدة والتاريخ ،فأنا لم أمنعك من كتابة التاريخ أو قراءته أو نقده إذا ملكت أدوات النقد وآلياته ،فإذا رأيت نفسك مضطرا للبيان أو التوضيح أو الإجابة على سؤال أو تساؤل فلا بد من البيان لأن الولوج في هذه المواضيع كتناول الدواء إذا زدت عن الكمية المحددة تلحق بنفسك ضررا
إن أحداث التاريخ يجب أن نكتبها بخيرها وشرها ،لأنها قد وقعت وكتمانها أو تزويرها يعتبر جرما في حق الجميع ،وبعض العلماء سامحهم الله ينفون العصمة عن الأشخاص نظريا ولكنهم يثبتونها لهم واقعيا إما جهلا وإما تقليدا لمقروئهم الثقافي دون تمحيص ، وسوف أسوق لك مثالين. ……………………..يتبع
الأستاذ محمد شارف الحنفي