تواصل مخرجات حراك 25 جويلية 2021 الذي حدث بتونس، ارتداداتها على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية، بعد قرارات تاريخية، فاجأ بها الرئيس “قيس سعيد” العالم، وهو يستجيب لمطالب الشعب المنادية بتطهير الساحة من الفوضى، وتخليص البلاد من التشنجات، بحل البرلمان والحكومة، بمباشرته تعليق أشغال البرلمان لمدة شهر قابل للتمديد، مع رفع الحصانة على النواب، وإقالة رئيس الحكومة. فورا بعد إذاعة خبر قرارات الرئيس الفورية، خرج الشعب التونسي إلى الشارع، أين قضى ليلته مهللا وشاكرا للتدابير التي تم اتخاذها، وتحول ليل تونس إلى نهار، بزحمة الشعب الذي زغرد وغنى وصفق، متفائلا بغد جديد، بعدما كان قد قضى صبيحتها لحظات غضب عارم، كاد أن يعصف بأمن البلد، بعدما حاول اقتحام مقرات حركة النهضة وإحراقها، محملا أياها مسؤولية العيش الضنك الذي يحياه الشعب التونسي اليوم، لاسيما الوضع الصحي الذي جعله يتسول العالم لتوفير معدات العلاج الخاصة بوباء كورونا، رغم الأموال والمساعدات التي دخلت البلد في بداية الوباء ولم يظهر لها وجود فيما بعد، إلى جانب تدهور الوضع الاقتصادي وحالة الهوان والذل الذي أصبح عليه البرلمان. رغم أن الرئيس قيس سعيد استند في قراراته على المادة 80 من الدستور التونسي، إلا أنه لقي اعتراضا من طرف البعض في مقدمتهم حركة النهضة، وحتى تركيا التي اعتبرت ما تم انقلابا صريحا على الدستور، في حين أن باقي الدول المجاورة والعربية وحتى أمريكا لم تنتقد ما حدث بتونس، وإنما اعتبرت ما تم شأن داخلي، داعية إلى ضبط النفس وتغليب المصلحة العليا لتونس. وفي هذا الشأن ولفهم ما يجري بالشقيقة الخضراء وتداعياته عليها وعلى محيطها الإقليمي والدولي، تواصلت يومية “منبر القراء” مع رئيس المركز المغاربي للبحوث والدراسات والتوثيق، الأستاذ “ماجد برهومي”، وكان الحوار الآتي:
- قام به الرئيس التونسي جاء مفاجئا، لكنه لقي ترحابا واسعا من الشعب والسياسيين في اليوم الأول ما عدا النهضة. هل ما قام به الرئيس كان صوابا؟
لقي ما قام به الرئيس “قيس سعيد” ترحيبا واسعا في الشارع التونسي، لم أر له مثيلا منذ أن فاز المنتخب التونسي لكرة القدم بكأس أمم إفريقيا سنة 2004. لقد خرج الناس إلى الشوارع يحتفلون، وتعالت منبهات السيارات مرحبة بما أقدم عليه ساكن قرطاج، وسمعنا الزغاريد من كل مكان. كان مشهدا غير مألوف في الحياة السياسية، فحتى عندما رحل الرئيس السابق “بن علي” لم يفعل التونسيون هذا، فهناك نقمة حقيقية على حركة النهضة، سببها الإنهيار الذي تسببت فيه للدولة التونسية طيلة عشرية كاملة.
وقبل الإحتفال شهدنا احتجاجات ضد حركة النهضة، شملت مختلف مدن البلاد، حرقت خلالها مقرات الأحزاب ولم يتمكن الأمن من كبح جماح المحتجين، الذين أصابهم غضب عارم لم نشهد له مثيلا. من لا يعرف الشعب التونسي لن يفهم حقيقة ما حصل، ففي الوقت الذي كانت فيه الإعانات تتقاطر على الشعب التونسي لمقاومة جائحة كورونا، كان التونسيون يشعرون بالإهانة، جراء الوضع الذي أوصلتهم إليه حركة النهضة، التي جعلت البلد يتسول التلاقيح فيما لا يعرف مصير أموال طائلة تم نهبها من الخزينة العامة. لنكن واقعيين، الأوضاع في تونس قبل 25 جويلية كانت تنبئ بقرب نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، وقد كتبت شخصيا في هذا الموضوع مرارا وتكرارا، وأشرت إليه مرات عديدة في ذروة ذل الإعانات التي كانت تأتي من الخارج، والتي سعد بها من اعتاد الأكل من مختلف الموائد وماتت الكرامة داخله، فيما رفضها الأحرار وشعروا بالذل والمهانة خاصة وأن البلد لم تكن تعوزه الإمكانيات للتصدي إلى هذه الجائحة.
برأيي أن الرئيس “قيس سعيد” أنقذ حركة النهضة من هيجان الشارع وسيطر على الأوضاع وامتص هذا الغضب الشعبي. لو كنت قياديا في حركة النهضة، لشكرت الرئيس “قيس سعيد” الذي رمى لي بطوق نجاة شبيه بذلك الذي أرسله الباجي قائد السبسي سنة 2013، عوض انتقاده والتشهير به. وسواء فعل الرئيس “قيس سعيد” ما فعله أو لم يفعل، فإن منظومة 2011 التي تمثلها حركة النهضة ماتت فعليا، وحتى لو رمى لها البعض طوق نجاة من خلال حوار وطني جديد، فإنها لن تعمر طويلا، مثلما لم يعمر الزعيم “بورقيبة” طويلا بعد أحداث الخبز سنة 1984، و كان الجميع يشعر يومها أنه لابد من حصول شيء ما ينهي هذه الحقبة، وفق المسار الطبيعي للتاريخ الذي لا يمكن الوقوف ضده.
- كيف ترى قرار الرئيس بخصوص اعتماد الصلح الجزائي مع الفاسدين؟ هل سيكون سهل التطبيق؟
هو تصور من رئيس الجمهورية، لإيجاد حل للتنمية في الجهات الداخلية المهمشة لا غير. وذلك من خلال الضغط على رجال الأعمال، الذين نالوا قروضا من البنوك العمومية، ولم يسددوا أقساطهم للإستثمار في المناطق المهمة. إن فكرة استعادة الدولة لأموالها فكرة جيدة، على أن تشمل أيضا من نهبوا المال العام، بعد ما سميت “الثورة” وظهرت عليهم آثار الثراء الفاحش.
طبعا التطبيق لن يكون سهلا، ولو كنت مكان الرئيس، ما فتحت هذه الجبهة، التي تستهدف رجال الأعمال في الوقت الحاضر، لأنني بصدد الصراع في جبهة أخرى والخصم ليس هينا. لكن ساكن قرطاج يبدو أنه بالإعلان عن هذا الإجراء، يرغب في صناعة الأمل بغد أفضل لأنصاره ومريديه في الجهات الداخلية، المحرومة من التنمية الذين يبدو أنهم بحاجة إلى هذه الجرعات من الأمل، ليواصلوا دعمهم له بحماس خلال الفترة القادمة.
- مرت أكثر من 72 ساعة على تجميد البرلمان وإنهاء مهام رئيس الحكومة، ولا زال لحد الساعة لم يتم تعيين رئيسا للحكومة، ألا يخلق هذا فراغا مؤسساتيا؟
مما لا شك فيه، أن البلاد بحاجة إلى الخروج من هذه الفترة الإستثنائية في أسرع وقت، لكن التأخير لا يخلق فراغا مؤسساتيا في الحالة التونسية لسببين: أولهما أن الحكومة المقالة، تباشر مهامها في انتظار تسليم السلطة للحكومة الجديدة. وقد استقبلت وزيرة الشباب والرياضية البطل الأولمبي التونسي، السباح “أحمد أيوب الحفناوي” في المطار، لدى عودته من طوكيو. ثانيهما أن في البلاد إدارة عريقة ومتمرسة، قادرة على إدارة البلد دون سلطة سياسية. وحصل ذلك في الواقع، بعد الإطاحة بنظام “بن علي”، بقيت البلاد فترة دون رئيس ودون حكومة. وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي، وكل مؤسسة تعرف الدور المناط بعهدتها. فتونس أو قرطاج هي دولة عريقة وقديمة وليست وليدة الصدفة والتقسيمات الإستعمارية وكذا مؤسساتها التي اكتسبت الخبرة على التعامل مع مثل هكذا وضعيات على مر السنين.
- تأخر الرئيس بأخذ قرار يخص البرلمانيين وفتح ملفات الفساد، هو بمثابة طوق نجاة للنهضة خاصة لإعادة رص صفوفها وتجديد علاقاتها دوليا، هل توافق هذا الرأي؟ لماذا؟
لا أوافق هذا الرأي، لأن الأمور حسمت شعبيا، فحتى لو استنجدت حركة النهضة بالخارج المساند لها لن يتغير شيء على الواقع، لقد انتهت حركة النهضة وانتهت معها منظومة 2011 برمتها، ونحن نعيش اليوم مخاض ولادة الجمهورية الجديدة التي يراها البعض ثالثة وأراها رابعة باعتبار جمهورية قرطاج الديمقراطية التي مازال تأثيرها في التونسيين باديا إلى اليوم لمن يتعمق في دراسة التاريخ. أنا على يقين أن العسكري الذي منع الغنوشي من دخول البرلمان كانت نصب عينيه حالة الإذلال التي وصل إليها الشعب التونسي سليل القرطاجيين و مشاهد قوافل الإعانات تتوالى تباعا على مطاراتنا وموانئنا تحمل إلينا ليس فقط المواد طبية بل حتى الغذاء..
حملوا إلينا الغذاء في وقت اختفت فيه مبالغ مالية هامة كانت تغنينا عن هذا الذل وتجنبنا هذا الحضيض.. أعرف وطنية أبناء المؤسسة العسكرية، وأعرف كرامتهم وعزة نفوسهم وأعرف عقيدتهم وأعرف كيف يفكرون. فقد سمعت شهادات سابقة لبعض من شهدوا مرافقتهم لرؤساء سابقين في زيارات خارجية، وكيف كانوا يمتعضون من بعض الممارسات التي يقوم بها سياسيون تساهم في الحط من كرامة تونس.. عندما كنت أكتب قبل 25 جويلية عن نهاية منظومة 2011، كان هؤلاء وغيرهم في مؤسسات أخرى نصب عيني، ففي هذا الوطن من لا يسمح بانهياره، وفي هذا الوطن من ولاؤه للخضراء دون سواها، مثلما هناك أيضا عملاء ومرتزقة وأذلاء لا تؤثر فيهم تلك المشاهد المخزية، بل تثير شهيتهم للمزيد.تونس العريقة أو قرطاج دولة لها تاريخ وجذور ووجود قديم قدم هذه الأرض، ولم تأت بها الصدفة أو فرضتها التقسيمات الاستعمارية فلا تستهينوا بها..
- هناك انقسام داخل صفوف النهضة بين مؤيد للرئيس وبين رافض لقراراته، هل حقا هو انقلاب داخل النهضة؟ أم تمويه للإفلات من العقاب؟
السؤال الذي يطرح، إذا كان هناك تيار إصلاحي فعلا داخل حركة النهضة، لماذا لم يعبروا عن وجودهم بتأسيس حزب آخر، مثلما فعل الدساترة في بداية السبعينات، حين برز داخلهم تيار إصلاحي ديمقراطي، انشق عن بورقيبة وأسس منظمات عريقة، مثل رابطة حقوق الإنسان وصحافة حرة، على غرار جريدة “الرأي”، وحزبا نافس الحزب الأم في انتخابات 1981 هو “حركة الديمقراطيين الإشتراكيين”. النهضويون وإن عبر كثير منهم عن امتعاضهم من ممارسات شيخهم، الذي تمسك برئاسة الحركة لأربعين سنة، إلا أن الغرور أصابهم واعتقدوا أن الشارع يساندهم، ولم يقوموا بمبادرات جدية، على غرار تلك التي قام بها الدساترة في السبعينات، أو قام بها قياديو حزب العدالة والتنمية في تركيا على غرار أحمد داود أوغلو.ربما هناك ندم من بعض القيادات، على عدم الذهاب بعيدا في الإصلاحات داخل الحركة أو الإنسلاخ منها، ويحملون الغنوشي المسؤولية عن الخوف والتردد الذي أصابهم منه، كما يبدو أن البعض الآخر يرغب في الإنحناء للعاصفة لا غير، للخروج بأخف الأضرار. فنسبة هامة من النهضويين غير مقتنعين بأنهم دمروا الدولة التونسية، ولديهم قناعة أن ما تسلط عليهم هو ظلم، وليس نتيجة طبيعية لدولة كانت بصدد التفكك.
- بالعودة للحديث عن البرلمان المجمد، هل سيكون حلا تلقائيا له، إذا تم فتح باب التمويل الخارجي للإنتخابات؟
طبعا الإنتخابات التونسية مزورة بالمال السياسي الخارجي، الذي كانت تشترى به ذمم الناخبين، وكانت حركة النهضة تحصل على نصيب الأسد من هذه التمويلات، وهو ما ضمن تفوقها في الإنتخابات. فالحصول على المال السياسي الخارجي، وتوظيفه في الإنتخابات هو نوع من أنواع التزوير، حسب المعايير الدولية للإنتخابات الحرة والنزيهة.
وتورط حركة النهضة في الحصول على المال السياسي الخارجي، ليس اتهاما باطلا من فراغ، فقد أثبتته محكمة المحاسبات منذ سنة، وأصدرت تقريرها بشأنه، لكن لم يقع تتبع حركة النهضة، لأنها كانت تسيطر على جزء هام من القضاء، وبالتالي فالبرلمان الحالي هو برلمان غير شرعي، وبني على باطل. ولابد للقضاء أن يبت في أمره، من خلال مسألة المال السياسي الخارجي من جهة، ومن خلال بعض النواب الذين تورطوا في جرائم خطيرة، منها ما يتعلق بالأمن القومي، ولم يقع تتبعهم قضائيا بفعل الحصانة، وهو ما سيؤدي فعلا إلى حل البرلمان حسب اعتقادي.
- في حال تم حل البرلمان وأعيدت الإنتخابات هل ستعود نفس الوجوه للترشح؟
لن تجرى انتخابات برأيي قبل الإستفتاء على شكل النظام السياسي، باعتبار أن النظام الحالي أصبح عبءً على البلد، لأنه نظام هجين وبحاجة إلى تعديلات لإقرار نظام رئاسي أو برلماني بشكل حاسم. كما لا يمكن الذهاب إلى انتخابات جديدة، قبل تعديل القانون الإنتخابي التعيس، الذي أوصل ذلك البرلمان الرديء، الذي ضم هاربين من العدالة باحثين عن الحصانة. وتتضمن التعديلات أشياء عديدة، على غرار شكل الإقتراع والرقابة الصارمة على التمويل الأجنبي.
في هذه الحالة حتى لو ترشحت الوجوه السيئة، فلن تنال ثقة الناخبين، لأنه لن يتم التصويت على قائمة حزبية مغلقة تفوز بمن فيها، بل سيمحص الناخب بين المترشحين داخلها، ولن تشتري حركة النهضة ذمم الناخبين وستصبح حزبا عاديا، ميزانيته كباقي الأحزاب، وسيتغير المشهد النيابي تماما.
- أترى أن الرئيس من خلال الإجراءات التي يقوم بها، هو يمهد لتغيير نظام الحكم والعودة إلى النظام الرئاسي؟
العودة إلى النظام الرئاسي؟ متى كان لنا نظام رئاسي في تونس؟ إذا كنت تقصدين ما كان سائدا قبل نظام “بن علي” وما هو موجود في البلدان العربية وبلدان أمريكا اللاتينية، هذه تسمى في القانون الدستوري أنظمة “رئاسوية”، يجمع فيها الرئيس بصلاحيات تنفيذية وقضائية وتشريعية، وهي التي تؤدي إلى الإستبداد. أما النظام “الرئاسي” فهو شيء مختلف، ففيه التفرقة بين السلط والتوازن فيما بينها، إضافة إلى رقابة السلط على بعضها البعض، على غرار ما هو حاصل في فرنسا والولايات المتحدة التي هي أنظمة رئاسية.باختصار لم تجرب تونس عبر تاريخها النظام الرئاسي، ولا البلدان العربية حتى تعود إليه، ولم يصرح الرئيس “قيس سعيد” أنه يرغب في إقرار نظام رئاسي إلى حد الآن.
- يرى تونسيون أنه في حال تم إقرار نظام رئاسي، فإن الديمقراطية ستقتل في تونس، وتعوض بالديكتاتورية، هل هذا صحيح؟
هؤلاء مواطنون بسطاء لم يدرسوا القانون الدستوري، ولا تاريخ الأنظمة السياسية، وقد استغلت حركة النهضة جهلهم بذلك، لتخيفهم من النظام الرئاسي، وتوهمهم كذبا وزورا وبهتانا أن نظام الرئيس “بن علي” كان نظاما رئاسيا. ما جعل مثلا “بن علي” يكون رجلا قويا فوق العادة في النظام السابق، هو مثلا رئاسته للمجلس الأعلى للقضاء، أي أن نظامنا الرئاسوي السابق جمع السلطتين التنفيذية والقضائية بيد شخص واحد، وهذا لا يوجد في الأنظمة الرئاسية على غرار نظامي الولايات المتحدة.
مصيبتنا في تونس، أن الكل أصبح يفتي في كل شيء، سواء أكان من أهل الإختصاص أو من خارجه، حتى وصلنا إلى هذه الحالة من سوء الفهم واختلاط المفاهيم في الأذهان. وباختصار شديد النظام الرئاسي هو نظام ديمقراطي ولا يؤدي إلى الإستبداد. وحركة النهضة لا ترغب في وجود رئيس بصلاحيات كبيرة، لأنها غير قادرة على إيصال رئيس جمهورية إلى قرطاج لأنه ليست لها الأغلبية، في حين أنها قادرة على السيطرة على البرلمان، لأن المجتمع السياسي المعارض لها يخوض الإنتخابات التشريعية مشتتا، وليس موحدا ضد مرشحها للرئاسة. لذلك هي إما لا تقدم مرشحا للرئاسة، أو تقدم شخصا لتنهي مسيرته، على غرار ما حصل مع “عبد الفتاح مورو”، الذي رشحه “الغنوشي” لرئاسة الجمهورية ليحترق ولا ينافسه على رئاسة البرلمان.
- هل مهلة شهر التي أقرها الرئيس كافية لتنفيذ سلسلة القرارات التي اتخذها؟
لا أعتقد أنها كافية، وأتصور أنه سيقع التمديد فيها بحسب التطورات على الميدان، ولا بد من إيجاد المخرج القانوني لذلك حتى نبقى في إطار الدستور.
- ألا تؤثر الوضعية التي تعيشها تونس اليوم على علاقاتها الخارجية، على المستوى الإقتصادي؟ وفي علاقة بصندوق النقد الدولي؟
تونس خسرت كل شيء، ولم يعد لها ما تخسره. ومهما تأزمت الأوضاع لن تكون أسوأ مما كانت عليه قبل يوم 25 جويلية، لقد وصلنا إلى القاع على كافة المستويات. فإن كان “بن علي” أضر بحقوق الإنسان وخنق الحريات، ولم يحقق التداول السلمي على السلطة، فإن هؤلاء طال عبثهم كل شيء، ولم يتركوا قطاعا إلا ومسته يد الخراب، حتى بتنا بلدا يرسلون له الغذاء من السمك وغيره.
- تركيا رفضت قرارات الرئيس التونسي. هل هذا يعني أنه سيكون لها تدخل في الشأن التونسي؟ أو بشكل آخر ألا يعتبر هذا تنبيها لتونس خاصة وأنها متواجدة بليبيا؟
يبدو أنك تعطين لتركيا حجما أكبر من حجمها، أو ربما هي مثل دول عديدة أخرى ليس لها الوزن الدولي الكافي، وتريد أن توهم العالم بأنها قوى إقليمية وقادرة على التأثير، فجعلت البعض يعتقدون بقوتها وسطوتها، على غرار دول مريضة أخرى وهي التي تترنح وتقاوم بصعوبة للبقاء في ليبيا. تركيا لم تتدخل في الشأن التونسي في السنوات الماضية، إلا من بوابة المال السياسي الخارجي الذي أسلفنا الحديث عنه، حيث كانت تغدق بسخاء على حركة النهضة، وتمولها لتفوز في الإنتخابات وتتدخل في الشأن التونسي من خلالها.
وحين يتم القطع يد الأحزاب التي تتلقى التمويلات الخارجية والإعانات، لن يتدخل أحد في الشأن التونسي سياسيا ولا عسكريا واقتصاديا ولا في أي مجال من المجالات. لقد حاول غيرهم تهديد أمن واستقرار تونس سواء في الإنقلاب الفاشل على “بورقيبة” بداية الستينات أو في أحداث “قفصة” سنة 1980 وفشلوا فشلا ذريعا. ويبدو أن صغر مساحة هذا البلد تجعل البعض يغتر ويعتقد أنه لقمة سائغة، في حين أن فيه رجالا صناديد قادرون على الذود عنه أمام القوى الكبرى، وبتكتيكات حربية تأخذ بعين الإعتبار عدم التكافؤ في موازين القوى، وتجعل كلامي ذو مصداقية وأعي ما أقول ولا أتحدث عن أوهام. وقد حصل هذا في معارك ما بعد الإستقلال ضد فرنسا سواء في معركة “رمادة” أو في معركة “العلامة 233” أو في حرب الجلاء في “بنزرت”، وحصل أيضا في عملية “قفصة” ومؤخرا في ملحمة “بن قردان”، فكل من يقترب من التراب التونسي ستكون الخضراء مقبرته.
- ما يحدث بتونس له تداعياته على الدول المجاورة، النهضة لها امتداداتها. كيف تقرؤون الصورة سياسيا وأمنيا؟
لا أعتقد ذلك، وأرى أن ما يحصل في تونس يؤثر في تونس وحدها، ولم يدر بتاتا في ذهن أي تونسي انتفض على حركة النهضة، أن يؤثر في جواره الذي نتمنى له الإستقرار ودوام التطور والنمو، فلكل بلد خصائصه ومساره ومصالحه التي يقدرها أبناؤه دون سواهم.
- بعد حراك 25 جويلية تدخلت الدول الجارة والعربية بحكم العلاقات والأمن القومي. لكن رد تركيا رآه البعض إنذارا لما رأته انقلابا حسبها. ما تفسيركم لهذه المواقف؟
لم تحصل تدخلات وإنما مواقف عادية تعبر عنها الدول، بحكم أنها تعيش جميعا في قرية صغيرة متداخلة ومترابطة وتتشابك فيها المصالح. بالنسبة لتركيا “أردوغان”، موقفها معروف فهي مساندة للإخوان، وهي من تمولهم بالمال الفاسد، الذي يتم به شراء ذمم الناخبين. وقد تدفع ثمن موقفها هذا في الوقت المناسب، من خلال مصالحها في تونس، خاصة وهي تزود السوق التونسية ببضائع لا تحتاجها البلاد، وتنتج المصانع التونسية أفضل منها. أعتقد أنه حان الوقت لمراجعة الإتفاقيات التجارية مع تركيا، والتي جعلت الميزان التجاري بين البلدين سلبيا لتونس، بعد أن كان في الإتجاه المعاكس ولصالح تونس قبل هذه العشرية السوداء في تاريخ تونس.
وباعتباري رجل قانون ولا أخوض في مسألة ما دون تعريفها مسبقا، أرغب من الأتراك أن يعرفوا لنا مفهومهم للإنقلاب بجميع العناصر المكونة له، حتى يكون هذا التعريف قاعدة للنقاش. أما أن يسموا ما حصل انقلابا دون تعريف علمي فهذا لا يستقيم، لذلك لا بد أن يخوض في هذه المصطلحات أهل الإختصاص دون سواهم، خاصة وأنه بالإعتماد على التعريفات المتداولة للإنقلاب والمتفق عليها، والتي تعتبر مراجع لأهل الإختصاص، فإن ما حصل في تونس لا يعتبر انقلابا، ومن يريد أن يكيف ما حصل على هواه فهذا شأنه.
- هل ما تم بتونس هدفه القضاء على الإخوان أو ما يعرف بالإسلام السياسي أم هدفه القضاء على النظام الفاسد؟
ما حصل في تونس كان هدفه القضاء على النظام الفاسد، بقطع النظر عن انتمائه الإيديولوجي، لأن ما يهم التونسي هو معيشته ولا علاقة له بالإيديولوجيا، فلو وفر له الشيطان العيش الكريم فإنه سيسانده دون هوادة. وقد نالت حركة النهضة فرصة في السابق حين أنقذها الرئيس الأسبق “الباجي قائد السبسي” من غضب شعبي كبير وأعادها إلى الواجهة، بعد ثلاث سنوات من الفشل خلال فترة حكم الترويكا، التي امتدت بين سنتي 2011 و2013، لكنها غدرت به وحشرته في الزاوية بعد سنتين فقط من التوافق وعادت لتعربد من جديد، واستفردت بحكم البلاد وفارق “الباجي” الحياة بطريقة مريبة تحوم حولها الشكوك.
- هل يمكن إزاحة النهضة من الواجهة السياسية التونسية؟ ما تعليقكم على دعوتها إلى تنظيم حوار وطني شامل دون إقصاء؟
لا أحد يرغب في إزاحة حركة النهضة من الساحة السياسية، رغم أنها أزاحت الدساترة ودفعت باتجاه حل حزبهم العريق، لكن حركة النهضة ستصبح حزبا صغيرا مثل بقية الأحزاب، بمجرد أن يمنع عنها المال السياسي الخارجي، الذي تشتري به ذمم الناخبين وتدلس به الإنتخابات. وبالنسبة لدعوات النهضة للحوار الوطني، أعتقد أنها متأخرة جدا ولم يعد بالإمكان الذهاب في هذا الخيار، لأننا في صراع مع الزمن لإنقاذ البلاد، وتصورات الإصلاح معروفة ومعلومة من الجميع، وترتكز بالأساس على الإستفتاء على شكل النظام السياسي وتعديل القانون الإنتخابي..
- هل يقصد الغنوشي بتحريكه للشارع في حال تم إقصاء النهضة من مشاورات تشكيل الحكومة الدفع نحو حرب أهلية؟
صدقا لم يعد للتونسيين ما يخسرونه، ولم تعد تخيفهم هذه التهديدات، ولو ذهب “الغنوشي” في هذا الخيار سيكتوي هو وحركته بنيران هذا الخيار دون غيرهم، وسينبذهم المجتمع الداخلي والدولي على حد سواء.
- هل ما يحدث اليوم هو هزة من الهزات الإرتدادية لزلزال التغيير الديمقراطي الذي ضرب تونس في 2011؟
يمكن قول هذا، خاصة وأن المجتمع التونسي قطع مع التداول السلمي على السلطة منذ سقوط “قرطاج”، وحصلت قطيعة مع الديمقراطية مع الرومان والبيزنطيين والعرب والعثمانيين. لذلك حتى يترسخ من جديد هذا الفكر غير الغريب على الديار، لا بد من سنوات وإصلاحات كثيرة تتراءى مع الممارسة ومع الوقت، ففرنسا احتاجت إلى خمس جمهوريات ليستقر نظامها السياسي، ويترسخ ويلاءم مع الواقع الذي نشأ فيه.
- ما هي الإصلاحات الواجب اتخاذها لدخول تونس نادي الدول الديمقراطية؟
تونس دخلت بعد نادي الدول الديمقراطية وهذا ما يشهد به العالم، فأغلب البلدان الغربية تتحدث عن رغبتها في عدم حصول انتكاسة للديمقراطية التونسية. فقط نحن نشهد محطة من محطات البناء والإصلاح ومعالجة الزلات.
حاورته: ميمي قلان