
قرية الموان تسترجع في صمت آلاما بقيت راسخة في أذهان جميع من عايشوا أكبر مجازر التاريخ المعاصر
لا تزال قرية الموان (17 كلم شمال سطيف) إلى اليوم تسترجع و في صمت, آلاما لا تطاق بقيت راسخة في أذهان جميع من عايشوا واحدة من أكبر مجازر التاريخ المعاصر و تأبى النسيان بالرغم من مرور 76 سنة عليها.فقد كانت هذه المنطقة الفلاحية الصغيرة الواقعة على ارتفاع 1300 متر ذات ثلاثاء 8 مايو 1945, مسرحا تجسد فيه مرة أخرى بطش الاحتلال الذي اقترف مأساة إنسانية رهيبة فعانت الويلات مثلها مثل عديد مناطق ولاية سطيف, التي أبيد فيها الآلاف من الجزائريين العزل الذين خرجوا في مسيرة سلمية للمطالبة بالحرية والاستقلال.
و تشير الوثائق التاريخية و الشهادات الحية المستقاة من متحف المجاهد بسطيف و الموثقة من طرف العديد ممن عايشوا تلك الأحداث الدموية إلى أن “عمليات التقتيل الجماعي التي انطلقت من وسط مدينة سطيف يوم الثلاثاء الأسود قد تواصلت على مدى عدة أسابيع, حيث امتدت إلى مناطق أخرى كالموان و الأوريسيا و الخربة و البحيرة و عين عباسة و غيرها”.و تضيف ذات الشهادات أيضا بأن “كل هذه المناطق و أخرى قد حولها المستعمر الفرنسي مسرحا لمجازر واسعة النطاق و جعل منها مقابر جماعية, حيث ألقي بالمئات من الضحايا الذين تمت تصفيتهم بطرق أقل ما يقال عنها أنها وحشية في حفر جماعية أمام أنظار العائلات و حتى الأطفال”.ويروي المجاهد المختار فرية, الذي أدلى بشهادته مؤخرا لمتحف المجاهد و هو الذي لا يزال يحتفظ في ذاكرته بتضحية والده السعيد فرية و أربعة من ضيوفه الذين اغتيلوا أمامه, فيقول : ” لم أكن أتخيل إطلاقا أن تحل بالقرية صاعقة مماثلة و لا أجد الكلمات المعبرة عن المشاعر التي انتابتني لحظتها”.وقال هذا المجاهد, الذي كان يبلغ حينها 13 عاما فقط, “أغتنم هذه الفرصة لكشف النقاب عن جانب من المجازر المقترفة في 8 ماي 1945 من طرف الجيش الفرنسي بمشتة نائية من هذا الوطن, فأنا ممنون لأن الله منحني الحياة لأتمكن من نقل ما رأيته و عانيته”.
وأضاف “عند قدوم الجيش الفرنسي اهتزت قرية أولاد زغوان المسماة أيضا مطرونة و التي تبعد بحوالي 6 كلم عن منطقة الموان, حيث قام أفراد الجيش عقب الانتهاء من تجميع رجال القرية باغتيال الشريف موصلي ببرودة تامة ثم مختار معيش و عبد الله محار و لخضر بن شخشوخ و الحاج فرية و السعيد فرية”.وواصل قائلا : ” شعر لخضر بوسحابة بالخطر الحائم فهم بالهرب محتميا ببرنوسه فكان محظوظا حيث نجا بأعجوبة من محاولة القتل التي خرج منها مصابا في الخنصر”.وحسب شهادة ذات المجاهد فقد خص أحد الضباط الفرنسيين والده بنظرات ثاقبة بعد أن أمر أحد العساكر بتهشيم رأسه (والدي) بالرصاص, مردفا “و قد شعر والدي بالخوف الذي انتابني و الدموع تنزل على خدي فترك لي وصية لا أزال أحتفظ بها إلى اليوم”.
وفصل في هذا السياق “لقد نظر إلي والدي و قال لي قبل استشهاده, لا تبك و ابق واقفا و لا تنس أبدا هذه اللحظات, حيث و ما إن نقل لي هذه الكلمات حتى رماه الجلاد بالرصاص ليبقى هذا المشهد المرعب خالدا في ذاكرتي و ملتصقا بجسدي ما حييت”.وحسب ذات المجاهد فإن عناصر الجيش الفرنسي أكملوا مهمتهم بدوار أولاد زغوان بحرق المنازل تاركين سكانها يسبحون في بركة من الدماء و نهب ما تبقى من أغنام العائلات التي كانت تعيش فقرا مدقعا و اقتياد مساجين من بينهم المدعو قونار المسجل إلى حد الآن في عداد المفقودين.وقال المختار فرية البالغ من العمر 89 سنة, “من شدة الرعب و الخوف من الموت اتخذ الناجون جبل مطرونة ملجأ لهم و مع غروب الشمس نزلوا إلى الدوار لدفن موتاهم”.
وتطرق بعدها إلى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى قتل والده و ضيوفه ممن شاركوا في مسيرة 8 ماي 1945, قائلا: “لقد كان والدي و قريبه الحاج فرية ضمن خلية تنشط بفرع حزب الشعب الجزائري بقرية العناصر( بلدية عين أرنات) و هو النشاط الذي تتبعه المستعمر الذي كان يتخوف من كل محاولة لتسييس الريف”.وختم المجاهد مختار فرية شهادته التي كان يسترجع من خلالها شريط تلك المشاهد التي لا زال متأثرا بها لحد الساعة ” دعوني أقول بأن إراقة الدماء يوم 8 ماي 1945 قد أكدت لنا أن نيل الاستقلال لن يكون سوى بالقوة و أحدثت القطيعة مع المحتل فكانت الشرارة التي مهدت للثورة التحريرية المجيدة”.
جناح بمتحف المجاهد لتخليد 8 مايو 1945
خصص متحف المجاهد بسطيف جناحا قارا لتخليد ذكرى 8 مايو 1945, يضم صورا و وثائق للتوثيق لمرحلة هامة من مراحل كفاح الشعب الجزائري و التعريف بإحدى المجازر التي اقترفها الجيش الفرنسي ضد شعب كافح ضد المستعمر.وأصبح هذا الجناح يستقطب مئات الزوار من جميع ولايات الوطن يمثلون جميع شرائح المجتمع بما فيهم تلاميذ المدارس و طلاب الجامعات و غيرهم, حسبما أكده لـ/وأج/ مدير المتحف, كمال فرية.
وحسب السيد فرية فإن مجازر 8 مايو 1945 “قد حازت على قدر كبير من الأهمية في عملية التوثيق من طرف المتحف في إطار حفظ الذاكرة و ذلك لما تحمله تلك المجازر الرهيبة من آلام و مآسي للعائلات السطايفية التي قدمت أبناءها على مذبح الحرية قبل اندلاع ثورة التحرير المجيدة “.وبالرغم من وفاة أغلب من عايشوا تلك الحقبة من الزمن مما أثر في عملية التوثيق لتلك المرحلة الهامة, إلا أن جهودا تبذل في هذا الإطار من خلال استهداف من عاصروا تلك الأحداث و كانت أعمارهم صغيرة حينها, يضيف ذات المصدر.وتمكن متحف المجاهد بسطيف من تسجيل ساعات و ساعات من الشهادات الحية المتعلقة بمجازر 8 مايو 1945 لمجاهدين عايشوها على غرار المرحومين لخضر تعرايبت (أول من رفع العلم الوطني عند سقوطه من يد الشهيد سعال بوزيد وهرب به) و كذا عيسى شراقة ( من أوكلت إليه مهمة رفع العلم الوطني خلال انطلاق المسيرة لطول قامته) و غيرهم.وبقي النصب التذكاري سعال بوزيد بوسط مدينة سطيف و تحديدا بمكان سقوط ذلك البطل أثناء مسيرة 8 مايو 1945, رمزا مهما لدى سكان سطيف لتمجيد ذكرى جميع من استشهدوا خلال تلك المجازر الرهيبة و استذكار قصة جريمة تأبى النسيان.