
مليكة دمران…. صوت جرجرة الصداح من أجل انعتاق المرأة
لا تزال أيقونة الأغنية القبائلية العصرية, مليكة دمران, تحتل مكانة خاصة في قلوب النساء والرجال الذين ترعرعوا على أنغام ألحانها وجمال صوتها الذي تحدت به و بمرحها وبشاشتها مصاعب الحياة, حتى وهي تشارف على السبعينيات, إذ ستحتفل بعيد ميلادها التاسع والستين بعد خمسة (5) أيام.
ولدت حسناء جرجرة ذات الصوت القوي, الذي فرض نفسه باستحقاق في عالم الموسيقى, في 12 مارس 1956 في تيزي هيبل, وهي قرية تابعة لبلدية آيت محمود في بني دوالة جنوب تيزي وزو, وهي نفس القرية التي ولد بها أيضا الكاتبان الراحلان مولود فرعون وفاضمة آث منصور عمروش.
وهي طفلة, حرمت مليكة الصغيرة من والدها قبل بلوغها الثماني سنوات, لأنه كان مسجونا في فرسنس بفرنسا بسبب انتمائه لصفوف جبهة التحرير الوطني, ونضاله من أجل تحرير الجزائر, ولقد غرس ذلك لديها حبها الكبير للحرية.
وتتناول أغاني مليكة دمران, التي تستلهم من التراث وتمزج بينه وبين اللحن المعاصر, مواضيع كثيرة و مختلفة وتعكس التزامها وتفانيها لشعبها, ولقد تحدت الزمن وتركت بصمات لا تمحى في ذاكرة وقلوب أجيال عدة, ولا تزال إلى يومنا تثير الكثير من المشاعر والأفراح عند الاستماع إليها رغم مرور عشرات السنين على إنتاجها.
وكانت الفتاة الجبلية الصغيرة منذ نعومة أظفارها, متمردة في حياتها الشخصية كما في مسيرتها الفنية, فسخرت من الراهبات اللواتي كن يلقن فتيات قريتها حياة النحل, وتمردت على الحياة الصعبة والقهر وعلى الظلم الذي كان يعاني منه الرجال والنساء على حد سواء.وكان هذا الالتزام ينعكس على أغانيها التي لم تكن سوى تعبيرا على كل صعوبات الحياة.
لقد أسرت مليكة دمران محبيها بموسيقاها وكلماتها وصوتها, ولكن أيضا بجمالها الذي كان يرمز إليه كثيرا عند مجاملة امرأة ما, فلقد كانت بمثابة مارلين مونرو جرجرة أيام شبابها.كانت بدايتها الفنية يوم لقائها عام 1967 في قرية تيزي هيبل مع المغنية طاوس عمروش في جنازة والدتها فاضمة آث منصور, وكان هذا اللقاء هو الذي حدد مسارها الفني وجعلها “امرأة وفنانة ومناضلة نموذجية”, كما تقول هي شخصيا عن نفسها.
وفي عام 1969, عندما بلغت سن ال 13, تحدت والدها وشاركت في أول مهرجان للفنون الإفريقية في الجزائر العاصمة و فازت بميدالية قدمها لها آنذاك الرئيس الراحل, هواري بومدين.وعلقت لاحقا حول هذا الموضوع وحول مواضيع أخرى كثيرة, قائلة : “لم أكن أفهم لماذا كانوا يمنعونني من القيام بما كان يفعله الذكور”.
تشجيع الفنان سليمان عازم فتح الطريق أمام النجاح
وبعد عقد من الزمن, طلب أحد المنتجين من مليكة دمران أن تغني أغنية ثنائية مع نجم الأغنية القبائلية الصاعد آنذاك, سفيان, بتشجيع من الفنان القامة سليمان عازم, الذي تنقل شخصيا لانتظارها في المطار.وحققت أغنيتها “بوبريط” (تحريف لكلمة بوبريتر, المارشال الاستعماري, الذي تحول إلى شرير يخيف الأطفال) نجاحا كبيرا وفتحت لها باب عالم الفن الذي كان قبل ذلك حكرا على الرجال.
وكانت الفنانة تؤلف بنفسها كلمات أغانيها وموسيقاها, و لحنت شخصيا معظم إنتاجها الفني الذي تبنت من خلاله فكرة تحرير المرأة منذ أغنيتها الأولى “تيرغا تمزي” (أحلام مراهقة) التي كتبتها وهي في سن الخامسة عشرة عندما كانت في الفرقة الموسيقية لثانوية “فاطمة نسومر” التي كانت تدرس بها بتيزي وزو.وصدر ألبومها الأول سنة 1980, ولاقى شهرة لم تكن تتوقعها وهي في ال24 عاما آنذاك. ومنذ ذلك الحين, توالت نجاحاتها, وكان كل ألبوم يصدر لها, مثل أسارو (مفتاح السعادة) وأوغاديغ (أنا خائفة) وأججيغ (زهرة الخطيئة), اكتشافا جديدا لموهبة خارقة.
كانت أغاني مليكة دمران عبارة عن رثاء واستنكار لواقع المرأة على وجه الخصوص, فلقد غنت للحب بكل أشكاله, فغنت للحب المتميز في أغنية “لحمالاو” (حبي) ولما هو ممنوع على النساء “ادعويي” (المحرمات المكسورة) ولما هو مشؤوم “زواجيو” (الرباط الملعون), فلقد كانت باختصار مصممة على كسر كل الأغلال والمحرمات التي كانت تعاني منها المرأة بكلمات عميقة وصادقة ومستفزة أحيانا, كما كان الحال في أغنية “فكيغاك صوراو” (جسد بلا قلب).وغنت عن الحياة والمجتمع ومصاعبه, وكانت صوت كل امرأة تعاني في صمت وتتحمل مختلف أشكال العذاب في حياة فرضها عليها المجتمع ولم يترك لها مجالا للاختيار, فعبرت عن معاناة مختلف فئات النساء بأغان كثيرة منها “تاقشيشت ايفورين” (العانس), “تامنغورت” (العاقر), “النهثة” (صراخ الصمت), “تعوينت أوغان” (رثاء), وغيرها.
فكانت مليكة دمران لسان كل امرأة تعاني في صمت, تحدثها عن مشاكلها وهمومها وآمالها, وبالمقابل كانت النساء يستمعن إليها وإلى أنفسهن من خلالها, ويستمتعن بلحظات الفرح والسعادة التي كانت تثيرها في نفوسهن.لقد سمح عمل مليكة دمران كممرضة بمستشفى الأمراض العقلية في واد عيسي ( بضواحي تيزي وزو), بالتعرف عن قرب على معاناة النساء اللواتي كن يتوافدن على المكان لأسباب متنوعة ومأساوية على حد سواء.
و كانت تمزج لعلاجهن جرعة من الألحان مع الوصفة الطبية, فكانت تغني لهن وتمتعهن بصوتها الشجي لتريحهن وتساعدهن على تجاوز أحزانهن.وفي خضم التزامها بقضايا المرأة, انضمت المطربة الحسناء إلى إخوانها في النضال من أجل الديمقراطية والاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية وتحرير المرأة الجزائرية على وجه الخصوص.و لقد أجبرت مليكة دمران على المنفى خلال عشرية التسعينات, و استقرت في فرنسا مع بعض أفراد عائلتها عقب اختطاف المطرب معطوب لوناس و اغتيال الشاب حسني في سبتمبر 1994, و لقد تركت هذه المرحلة أثرا حزينا على حياتها.
ق.ث/الوكالات